الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)
.سنة أربعين وسبعمائة: وفيه: قدم الخبر بكثرة الفتن والغارات والاختلاف ببلاد المشرق، من نحو الصين وبلاد الخطا إلى ديار بكر. وفيه: قدم مبشرو الحاج برخاء الأسعار وسلامة الحاج. وفي يوم الأحد ثانيه: قدم الأمير بشتاك من الحج، وطلع القلعة بعد الظهر في اثني عشر رجلاً منهم أربعة نجابة وصحبته الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بكتمر الحاجب. وكان السلطان والأمراء أجيبوا لنواب قد قدموا له عند سفره شيئاً يجل عن الوصف، فبعث السلطان له مائتي ألف درهم ومائة هجين وأربعين بختياً وستين جملاً. فلما قدم مكة فرق في الأمراء مالاً كثيراً، فبعث إلى كل من الأمراء المقدمين ألف دينار، وإلى كل من أمراء الطبلخاناه خمسمائة دينار، وفرق في الأجناد، وبعث إلى بيوت الأمراء بمال كثير، ثم استدعى المجاورين جميعهم والأشراف وغيرهم من أهل مكة والزيالعة، وفرق فيهم المال، ولم يبق بمكة أحد حتى أسدى إليه معروفاً، فكان جملة ما فرق بشتاك ثلاثين ألف دينار وأربعمائة ألف درهم، سوى ما وصل إليه في المراكب من الغلال. فلما قدم بشتاك المدينة النبوية بعد قضاء نسكه فعل بها خيراً كثيراً ومضى منها إلى الكرك فتلقاه الأمير شطى بن عبية أمير آل عقبة في أربعمائة فارس من عربه وأضافه، ثم سار بشتاك ومعه الأمير شطى ومن معه من العرب إلى العقبة وقدم إلى القاهرة ثاني المحرم كما تقدم. وفي رابع عشريه: قدم ركب الحاج. وفيه انقطع مقطع بالقناطر التي أنشأها السلطان على جسر شيبين، فركب إليه الأمير برسبغا الحاحب، وجمع له من النواحي أربعة ألاف رجل، واستدعى بالأخشاب والصواري من دار الصناعة بمصر، وغرق فيه عدة مراكب. فأقام برسبغا اثنين وعشرين يوماً حتى سد المقطع، وبلغ المصروف عليه في ثمن مراكب غرقت وثمن صواري وحجارة وجير وجبس وحلفاً وأجرة رجال ثلاثين ألف دينار، غير سخر البلاد. وفيها قدم زين الدين عمر بن محمد بن عبد الحاكم البلفيائي قاضي حلب باستدعاء، فولى عوضه برهان الدين إبراهيم بن خليل بن إبراهيم الرسعني. وفي هذا الشهر: وضعت الست طولو قرطقا زوجة الأمير يلبغا اليحياوي وأخت خوند زاد وزوجة السلطان، فعمل لها السلطان مهما عظيماً، أقامت الأفراح سبعة أيام بلياليها، ولم يبق أحد من الأمراء إلا وبعث بزوجته، ففرق السلطان في نساء الأمراء جميعهن ما بين خمسمائة دينار إلى أربعمائة دينار إلى ثلاثمائة الواحدة. وكان السلطان قد عمل للنفساء قبل ولادتها داير بيت وبشخاناه ونحو ذلك بعشرين ألف دينار، وعمل لها عصابة مرضعة بأنواع الجواهر قومت بخمسين ألف دينار، وأنعم على زوحها بثلاثة ألاف دينار. وفي يوم الإثنين ثاني صفر: قبض على النشو، وعلى أخيه شرف الدين رزق الله، وعلى أخيه المخلص، ورفيقه مجد الدين، وعلى صهره ولي الدولة. وسبب ذلك أنه لما أسرف النشو في الظلم بحيث قل الجالب للبضائع، وذهب أكثر أموال التجار لطرح الأصناف عليهم بأغلى الأثمان، وطلب السلطان منه يتزايد، خاف النشو العجز، فرجع عن ظلم العامة إلى التعرض إلى الخاصة، ورتب مع أصحابه ذلك. وكانت عادته في كل ليلة أن يجمع إخوته وصهره ومن يثق به للنظر فيما يحدثه من المظالم فيدله ظل منهم على آبدة، ثم يفترقون وقد أبرم للناس بلاء يعذبهم الله به من الغد على يده، فكان مما اقترحه أن رتب أوراقاً تشتمل على فصول يتحصل فيها ألف ألف دينار عيناً، وقرأها على السلطان: ومنها التقاوي السلطانية المخلدة بالنواحي من الدولة الظاهرية بيبرس والمنصورية قلاوون في إقطاعات الأمراء والأجناد، وجملتها مائة ألف وستون ألف أردب، سوى ما في بلاد السلطان من التقاوي ومنها الرزق الأحباسية على الجوامع والمساجد والزوايا وغير ذلك، وهي مائة ألف فدان وثلاثون آلف فدان وقرر النشو مع السلطان أن يأخذ التقاوي السلطانية المذكورة، بأن يلزم متولي كل إقليم باستخراجها وحملها، وأن يقيم شادا يختاره لكشف الرزق الأحباسية، فما كان منها على موضع عامر بذكر الله يعطه نصف ما هو وقف عليه، ويأخذ من مزارعه عن النصف الآخر بحساب مائة درهم الفدان، ويلزمه بخراج ثلاث سنين، وما كان من الرزق على موضع خراب أو على أهل الأرياف من الخطباء الجهال ونحوهم أخذ واستخرج من مزارعه خراج ثلاث سنين من حساب مائة درهم الفدان، ومنها أراضي الروضة تجاه مدينة مصر، فإنها بيد أولاد الملوك، ويستأجرها منهم الدواوين وينشئون بها سواقي الأقصاب ونحوها مما بلغ قيمة الفدان منه ألف درهم، ومنها ما باعه أولاد الملوك بأبخس الأثمان- وقرر النشو مع السلطان أخذ أراضي الروضة للخاص، وأن يقاس ما أبيع منها، ويؤخذ ممن هي بيده تفاوت قيمتها، أو تجدد عليه إجارة للسلطان بالقيمة، ومنها أرباب الرواتب السلطانية، فإن أكثرهم عبيد الدواوين وغلمانهم ونساؤهم، ويكتبونها باسم زيد وعمرو، ومنها ما هو مرتب لجماعة من النصارى والرهبان سكان الديارات- وقرر النشو مع السلطان عرض جميع أرباب الرواتب والنظر في تواقيعهم، وإبقاء أرباب البيوت ومن يستحق على ما بيده، وأخذ تواقيع من عداهم وإلزامه بحل جميع ما استأداه من تاريخ توقيعه إلى أخر وقت، ومنها ذكر حواصل الأمير أقبغا عبد الواحد، وتفصيل ماله من أملاك وأراضي ومتاجر ومرتبات ورسوم على أرباب الوظائف السلطانية وعلى صناع العمائر، وتفصيل ما حمل إليه من العمائر السلطانية من الأصناف- وذكر النشو العمائر التي عمرها أقبغا من ديوان السلطان وما له لبلاد الشام، وجملتها وحدها خمسمائة ألف دينار، سوى ما له بديار مصر، ومنها ذكر ما أخذه الأمير طاجار الدوادار من البلاد الشامية ومن أهل مصر على قضاء أشغالهم، وتفصيل أملاكه. وقرر النشو مع السلطان القبض على آقبغا وطاجار، فوافقه السلطان على ذلك. وكان أول ما بدأ به النشو أن ندب جماعة لقياس الروضة جميعها من مذدرعها وأراضي دورها، وألزم أرباب الدور التي بها بإحضار كتب دورهم، وأن يقوموا عن أراضيها بقيمتها من تاريخ شرائها، ووكل ابن صابر باستخراج ذلك منهم، وأخذ عن البروز في الدور خاصة مائة ألف وعشرين ألف درهم. وأمر النشو مباشري الجوالي بقطع ما عليها من المرتبات عن جوامك القضاة والشهود ومشايخ العلم ونحوهم وكتب إلى جميع الأعمال يحمل مال الجوالي إلى خزانة الخاص، ومن تعجل منها شيا يستعاد منه، فجمع من ذلك مالاً كبيراً. فانزعج الناس كلهم، ولم يتجاسرأحد من الأمراء على السلطان في الحديث معه في ذلك، حتى ذكر السلطان لهم أن له نحو آلف أردب غلة في البلاد وأنه يريد أخذها، فتلطف به الحاج آل ملك وبيبرس الأحمدي وجنكلي بن البابا حتى سمح بأن يتمهل بطلبها حتم يفرغ الحرث ويقبض المغل. فلما فرغ النشو من قياس الروضة ألزم أرباب الرواتب أن يحضروا إلى القلعة ومعهم تواقيعهم، وألزم المباشرين بعمل الحساب وحمل ما تحت أيدهم من ذلك، وألزم جميع أرباب الرزق الأحباسية بإحضار تواقيعهم، وبعث البريد إلى الأعمال بذلك، وألزم ديوان الأحباس بكتابة الرزق كلها، فزلزل أرض مصر قبليهما وبحريها، ولم يقبل لأحد شفاعة حتى الأميرين بشتاك وقوصون، فإنهما كانا إذا بعثا إليه في شفاعة رد عليهما رداً جافياً وأغلظ على رسلهما. فاتفق الخاصكية جميعاً عليه، وندبوا للحديث مع السلطان الأمير يلبغا اليحياوي والأمير ملكتمر الحجازي وغيرهما، فصار كل منهم يسمع السلطان قبح سيرة النشو وهو يتغافل، إلى أن حدثه يلبغا وهو يومئذ أخص الخاصكية عنده، وقال عنه: يا خوند والله النشو يضرك أكثر ما ينفعك فتخيل السلطان من كلامه. واتفق وصول الأمير قرمجي الحاجب من دمشق، فأعاده السلطان سريعاً ليستشير الأمير تنكز نائب الشام في أمر النشو، وأنه قد بعضه أهل الدولة كلهم، مع كثرة نفعه لي ثم وجد السلطان عدة أوراق في حق النشو قد رميت له من غير أن يعرف رافعها، منها رقعة فيها: فلما قرأها السلطان تغير لونه ومزقها. ووجد السلطان ورقة أخرى فيها. وعن قريب عاد قرمجي في سادس عشرى المحرم، وأخبر عن نائب الشام بأنه قد استفيض ما ذكره السلطان من بغض مماليكه للنشو، وأن التجار وأرباب الأموال في خوف شديد من ظلمه، ورأى السلطان فيه أعلى. وكان يوم وصوله بالقلعة منظراً مهولاً، فإنه اجتمع بها أرباب الرواتب والصدقات، وفيهم الأرامل والأيتام والزمناء والعميان، وصاروا في بكاء ونحيب، فتقطعت القلوب حسرات رحمة لهم. وشغل الله النشو عنهم بنفسه، فحد له قولنج وهو بخزانة الخاص. فأمر السلطالن الناس أن ينصرفوا ويحضروا أول الشهر، ومن تأخر شطب على اسمه. فنزل بعد الظهر من القلعة، وتفرقوا تلك الليلة بالجوامع في القاهرة ومصر، وهي ليلة سابع عشرى المحرم، للدعاء بسبب توقف النيل عن الزيادة، فإنه كان قد توقف توقفاً زائداً فلما قرب الوفاء نقص واستمر على نقصه أياماً، فصرفوا دعاءهم على النشو طول ليلتهم، وكانوا جموعاً كثيرة إلى الغاية. فأصبح النشو مريضاً، وانقطع بداره حتى فرغ المحرم، فحذره الفاضل شمس الدين محمد بن الأكفاني مع قطع مخوف في أول صفر، يخشى منه إراقة دمه. فلما كان يوم الأحد أول صفر: ركب النشو إلى القلعة، وبه أثر المرض في وجهه، فقرر مع ا!سلطان إيقاع الحوطة على أقبغا عبد الواحد من الغد. فتقرر الحال على أنه يجلس على باب الخزانة، فإذا خرج الأمير بشتاك من الخدمة جلس معه على باب الخزانة ثم قاما إلى بيت آقبغا وحاطا بموجوده كله. فلما عاد النشو إلى داره عبر إلى الحمام ليلة الإثنين، ومعه ابن الأكفان فأمر بعض عبيده السود أن يحلق رأسه ويجرحه بحيث يسيل الدم على جسمه، ليكون ذلك حظه من القطع المخوف، ففعل به ذلك، وتباشروا بما دفع الله عنهم بهذا، وباتوا ليلتهم في لذات ومسرات. هذا وقد كان الأمير يلبغا اليحياوي قد وعك جسمه، فقلق السلطان لمرضه، وأقام عنده لكثرة شغفه به. فقال له يلبغا فيما قال: يا خوند قد عظم إحسانك لي ووجب نصحك علي والمصلحة القبض على النشو، وإلا دخل عليك الدخيل، فإنه ما عندك أحد من مماليكك إلا وهو يترقب غفلة منك، وقد عرفتك ونصحتك قبل أن أموت، وبكى. فبكى السلطان لبكائه، وقام وهو لا يعقل لكثرة ما داخله من الوهم لثقته بيليغا وطلب بشتاك وعرفه أن الناس قد كرهوا النشو، وأنه عزم على الإيقاع به، فخاف بشتاك أن يكون ذلك امتحاناً من السلطان، فوجد عزمه قوياً في القبض. واقتضى الحال إحضار الأمير قوصون أيضاً، فقوي عزم السلطان على ذلك، ومازال به حتى قرر معهما أخذه. وأصبح النشو يوم الإثنين ثاني صفر وفي ذهنه أن القطع الذي خوف منه قد زال عنه بما دبره له ابن الأكفاني من إسالة الدم، فعلق عليه عدة من العقود والطلسمات والحروز، وركب إلى القلعة. وجلس النشو بين يدي السلطان على عادته وأخذ معه في القبص على أقبغا عبد الواحد كما قرره، فأمره السلطان أن يجلس على باب خزانة القصر حتى يخرج إليه الأمير بشتاك، ثم يمضيا لإيقاع الحوطة على موجوده، فقام. وطلب السلطان المقدم ابن صابر، وأسر إليه أن يقف بجماعته على باب القلعة وباب القرافة، ولا يدعوا أحداً من حواشي النشو وأقاربه وإخوته أن ينزلوا، وأن يقبضوا عليهم كلهم. وأمر السلطان الأمير بشتاك والأمير برسبغا الحاجب أن يمضيا إلى النشو، ويقبضا عليه وعلى أقاربه. فخرج بشتاك وجلس على باب الخزانة، وطلب النشو من داخلها، فظن النشو أنه جاء لميعاده مع السلطان حتى يحتاطا على موجود أقبغا عبد الواحد، فساعة ما وقع بصره عليه أمر مماليكه بأخذه إلى بيته من القلعة، وبعث إلى الأمير ملكتمر الحجازي فأخذ أخاه رزق الله وأخذ أخاه المخلص وسائر أقاربه. فطار الخبر إلى القاهرة ومصر، فخرج الناس كأنهم جراد منتشر. وركب الأمير آقبغا عبد الواحد والأمير طيبغا المجدي والأمير بيغرا والأمير برسبغا لإيقاع الحوطة على بيوت النشو وأقاربه وحواشيه، ومعهم جمال الكفاة كاتب الأمير بشتاك، وشهود الخزانة. وأخذ السلطان للأمراء: وكم تقولون النشو نهب أموال الناس الساعة ننظر المال الذي عنده، وكان السلطان يظن أنه يؤديه الأمانة، وأنه لا مال له. فندم الأمراء على تحسينهم مسك النشو خوفاً من أن لا يظهر له مال، سيما قوصون وبشتاك من أجل أنهما كانا قد بالغا في الحط عليه وإغراء السلطان به، فكثر قلقهما ولم يأكلا طعاماً، وبعثا في الكشف عن الخبر. فلما أوقع الأمراء الحوطة على دور الممسوكين بلغهم أن حريم النشو في بستان بجزيرة الفيل، فساروا إليه وهجموه، فوجدوا ستين جارية وأم النشو وامرأته وأخته وولديه وسائر أهله، وعندهم مائتا جنبة عنب وقند كثير ومعاصر، وهم في عصر العنب. فختموا على الدور والحواصل، ولم يتهيأ لهم نقل شيء منها. هذا وقد غلقت أسواق القاهرة ومصر، واجتمع الناس بالرميلة تحت القلعة ومعهم النساء والأطفال، وقد أشعلوا الشموع، ورفمعوا على رءوسهم المصاحف ونشروا الأعلام، وهم يضجون ويصيحولن استبشاراً وفرحاً بقبض النشو، والأمراء تشير لهم أن يكثروا مما هم فيه، واستمروا ليلة الثلاثاء على ذلك. فلما أصبحوا وقع الصوت داخل باب القلة من القلعة بأن رزق الله أخو النشو قد ذبح نفسه. وذلك أنه لما قبض عليه تسلمه الأمير قوصون، ووكل به أمير شكار، فسجنه أمير شكار في بعض خزائن بيته، وبات يحرسه حتى طلع الفجر، ثم قام أمير شكار للصلاة. فاستغفله رزق الله وأخذ من حياصته سكيناً ووضعها في نحره حتى نفذت منه وقطعت وريده، فلم يشعر أمير شكار إلا وهو يشخر وقد تلف. فصاح أمير شكار حتى بلغ صياحه قوصون، فانزعج لذلك وضرب أمير شكار ضرباً مبرحاً إلى أن علم السلطان بالخبر، فلم يكترث به. وفي يوم الإثنين: المذكور أفرج عن الصاحب شمس الدين موسى بن التاج إسحاق وأخيه، ونزلا من القلعة إلى الجامع الجديد خارج مصر، فقال الكمال جعفر الأدفوي في يوم الإثنين هذا، وفي معنى مسك النشو وغيره هذه الأبيات: وقال شمس الدين محمد بن الصائغ المصري في معنى مسك النشو والإفراج عن شمس الدين موسى وزيادة النيل، هذه الأبيات: وفيه زاد النيل بعد توقفه، فقال في ذلك علاء الدين بن فضل الله كاتب السر: وذلك أنه كان قد نقص، فلما قبض على النشو زاد ستة أصابع ثم ثمانية أصابع. وفي يوم الثلاثاء ثالث صفر: نودي بالقاهرة ومصر: بيعوا واشتروا واحمدوا الله على خلاصكم من النشو. وفيه أخرج رزق الله أخو النشو في هيئة تابوت امرأة حتى دفن في مقابر النصارى خوفاً عليه من العامة. وفيه أدخل الأمير بشتاك على السلطان وطلب الإعفاء من تسليم النشو إليه، خشية مما جرى على أخيه. فأمره السلطان أن يهدده على إخراج المال، ثم يسلمه لابن صابر. فأوقفه بشتاك وأهانه. فالتزم أنه إن أفرج عنه جمع للسلطان من أقاربه خزانة مال، فسبه ثم سلمه لابن صابر. فأخذه ابن صابر ليمضي به إلى قاعة الصاحب، فتكاثرت العامة تؤيد رجمه حتى طردهم نقيب الجيش وأخرجه ابن صابر في زنجير بعنقه حتى أدخله قاعة الصاحب، والعامة تحمل عليه حملة بعد حملة، والنقباء تطردهم. وفيه طلب السلطان جمال الكفاة إبراهيم كاتب الأمير بشتاك، وخلع عليه واستقر في نظر الخاص عوضاً عن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله المعروف بالنشو، بعد تمنعه. ورسم له أن ينزل للحوطة على النشو وأقاربه، ومعه الأمير آقبغا والأمير برسبغا وشهود الخزانة. فنزل جمال الكفاة بتشريفة وركب بغلة النشو، حتى أخرج حواصله. وقد أغلق الناس الأسواق وتجمعوا من كل موصع، ومعهم الطبول والشموع وأنواع الملاهي وأرباب الخيال، بحيث لم يوجد حانوت مفتوح نهارهم كله. ثم ساروا مع الأمراء على حالهم إلى تحت القلعة، وصاحوا صيحة حتى انزعج السلطان، وأمر الأمير أيدغمش بطردهم. ودخل الأمراء على السلطان بما وجدوه للنشو، وهو من العين خمسة عشر ألف دينار مصرية، والفان وخمسمائة حبة لؤلؤ قيمة كل حبة ما بين ألفي درهم إلى ألف درهم، وسبعون فص بلخش قيمة كل فص ما بين خمسة ألاف درهم إلى ألفين، وقطعتان زمرد فاخر زنتهما رطل ونيف، وستون حبلاً من لؤلؤ كبار زنة ذلك أربعمائة مثقال، ومائة وسبعون خاتم ذهب وفضة بفصوص مثمنة، وكف مريم مرصع بجوهر، وصليب ذهب مرصع، وعدة قطع زركش سوى حواصل لم تفتح. فخجل السلطان لما رأى ذلك، وقال للأمراء: لعن الله القبط ومن يأمنهم أو يصدقهم. وذلك أن النشو كان يظهر الفاقة بحيث يقترض الخمسين درهماً والثلاثين درهماً حتى ينفقها. وبعث في بعض الليالي إلى جمال الدين إبراهيم بن المغربي رئيس الأطباء يطلب منه مائة درهم، ويذكر له أنه طرقه ضيف ولم يجد ما يعشيه به. وقصد بذلك أن يكون له شاهداً بما يدعيه من الفقر. فلما كان في بعض الأيام شكا النشو للسلطان الفاقة وابن المغربي حاضر، فذكر أنه اقترص منه في ليلة كذا مائة درهم، فمشى ذلك على السلطان، وتقرر في ذهنه أنه فقير لا مال له، وصار السلطان يذكر ذلك كل قليل للأمراء. واستمر الأمراء ينزلون كل يوم لإخراج حواصل النشو، فوجد له من الأواني الصيني والبلور والتحف السنية شيء كثير. وفيه ولي الموفق نظر البيوت. وفيه ولي المجد بن المعتمد ديوان الأمير ملكتمر الحجازي. وفي يوم الخميس خامسه: زينت القاهرة ومصر زينة عظيمة مدة سبعة أيام، وعملت بها أفراح كثيرة، ونظم فيه العامة عدة أزجال وبلاليق وأظهروا من الخيال واللهو ما يجل وصفه. ووجدت مآكل كثيرة في حواصل النشو: منها نحو مائتي مطر مملوءة ملوحة وثمانين مطر جبن، وأحمال كثيرة من سواقة الشام، ولحم كثير من لحم الخنزير، وأربعة ألاف جرة خمر، سوى ما نهب. ووجد له أربعمائة بدلة قماش جدد، وثمانون بدلة مستعملة، وزراكش ومفرجات كثيرة. ووجد له ستون بغلطاق نسائي مزركش، ومناديل زركش عدة كثيرة. ووجد له عدة صناديق بها قماش سكندري مما عمل برسم الحرة جهة ملك المغرب قد اختلسه، وكثير من قماش الأمراء الذين ماتوا والذين قبض عليهم. ووجد له مملوك تركي وكان النشو قد خصاه هو واثنين معه ماتا، وكان قد خصى أيضاً أربعة عبيد فماتوا. فطلب الذي خصاهم، وضرب بالمقارع وجرس. وتتبعت أصحاب النشو، وضرب منهم جماعة وشهروا. وفي يوم الإثنين تاسعه: خلع على نجم الدين أيوب الكردي أستادار الأكز وهو يومئذ والي الشرقية، واستقر والي القاهرة عوضاً عن علاء الدين علي بن المروان وأحيط بموجود ابن المرواني وصودر. وفيه خلع أيضاً على عز الدين ممدود بن علاء الدين علي بن الكوران واستقر في ولاية مصر. وفيه خرج البريد بطلب الصاحب أمين الدين وزير الشام من دمشق. وفيه وجد لأخوة النشو ذخائر نفيسة: منها لصهره ولي الدولة صندوق فيه مائة وسبعون فص بلخش، وستة وثلاثون مرملة مكلة بالجواهر الرائعة، وإحدى عشر عنبرية مكللة بلؤلؤ كبار، وعشرون طراز زركش، وغير ذلك ما بين لؤلؤ منظوم وزمرد وكوافي زركش، قوم الجميع بأربعة وعشرين ألف دينار. وفيه ضرب المخلص اخو النشو ومفلح عبده بالمقارع، فأظهر المخلص الإسلام. وفي يوم الأربعاء رابعه وثالث عشرى مسرى: وفي وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وفتح الخليج من الغد على العادة. وفي يوم الأربعاء ثامن عشره: قدم أمين الدين من دمشق على البريد وطلع إلى بين يدي السلطان من الغد. وأجلسه السلطان وحادثه، وخلع عليه خلعة الوزارة، بطرحة خبعة القدوم، فنزل أمين الدين إلى داره، وتردد الناس إليه. وفيه أفرج عن الصفي كاتب الأمير قوصون، وأعيدوا إلى ديوان قوصون عوضاً عن علاء الدين ابن الحراني. وفيه خلع على ابن الحران واستقر في نظر الشام، عوضاً عن أمين الدين. وفي هذه السنة: لم يركب السلطان إلى الميدان للعب الأكرة، فإن الأمراء لما تأخرت عقوبة النشو تنكروا السلطان وتنكر لهم. وفي يوم الثلاثاء ثاني عشرى ربيع الأول: وجدت ورقة بين فرش السلطان، فيها: المملوك بيرم الناصح للسلطان يقبل الأرض، وينهى أنني أكلت رزقك، وأنت قوام المسلمين، ويجب على كل أحد نصحك، وأن بشتاك وآقبغا قد اتفقا على قتلك مع جماعة من المماليك، فاحترس على نفسك. وكان الأمير بشتاك في هذا اليوم قد توجه بكرة النهار إلى جهة الصعيد، فطلب السلطان الأمير قوصون والأمير آقبغا، وأوقفهما على الورقة فكان عقل آقبغا أن يختلط من شدة الرعب، وأخذ قوصون يعرف السلطان أن هذا فعل من يريد التشويش على السلطان وتغيير خاطره على مماليكه. فأخرج السلطان البريد في الحال لرد الأمير بشتاك، فأدركه بإطفيح وقد مد سماطه، فقام ولم يمد يده إلى شيء منه، وجد في سيره حتى دخل على السلطان. فأوقفه السلطان على الورقة، فتنصل مما رمي به كما تنصل آقبعا، واستسلم وقال: هذه نفسي ومالي بين يدي السلطان وإنما حمل من رماني بذلك الحسد على قربي من السلطان وعظيمم إحسانه إلي، ونحو هذا حتى رق له السلطان، وأمره أن يعود إلى طلبه ويتوجه إلى جهة قصده، فسار. ثم طلب السلطان ديوان الجيش، ورسم له أن يكتب كل من اسمه بيرم ويحضره إلى الأمير آقبغا. فارتجت القلعة والقاهرة لطلب المذكورين وعرضهم وتهديدهم وأخذ خطوطهم، ليقابل بها كتابة الورقة. فلما أعيا آقبغا الظفر بالغريم وهو يراجع السلطان في أمرهم، اتهم النشو أنها من مكايده. واشتد قلق السلطان وكثر انزعاجه، بحيث لم يستطع أن يقر بمكان واحد. ثم طلب السلطان والي القاهرة لالا، وأمره أن يهدم ما بالقاهرة من حوانيت صناع النشاب، وينادي: من عمل نشاباً شنق، فامتثل ذلك. وخرجت أيضاً جميع مرامي النشاب، وغلقت حوانيت القواسين. ونزل الأمير برسبغا الحاجب إلى الأمراء جميعهم، وعرفهم عن السلطان أن من رمي بالنشاب من مماليكهم أو حمل قوساً كان أستاذه عوضاً عنه في التلاف، وألا يركب احد من الأمراء بسلاح ولا تركاش نشاب. وبينا الناس في هذا الهول الشديد، إذ دخل شخص يعرف بابن الأزرق كان أبوه ممن مات في عقوبة النشو له عند مصادرته لجمال الكفاة- وطلب الورقة ليعرفهم من كتبها. فقام والي القاهرة، إلى السلطان ومعه الرجل، فلما وقف عليها قال: يا خوند هذه خط محمد الخطاب وهو رجل عند ولي الدولة صهر النشو، يلعب معه النرد ويعاقره الخمر فطلب المذكور، وحاققه الرجل محاققة طويلة، فلم يعترف، فعوقب عقوبات مؤلمة إلى أن أقر بأن ولي الدولة أمره بكتابتها، فجمع بينه وبين ولي الدولة، فأنكر ذلك. وطلب ولي الدولة أن يرى الورقة، فلما رأها حلف جهد أيمانه أنها خط ابن الأزرق لينال عرضه من أجل أن النشو قتل أباه، وحاققه على ذلك. فاقتضى الحال عقوبة ابن الأزرق، فاعترف أنها كتابته، وأنه أراد أن يأخذ بثأر أبيه من النشو وأهله. فعفا السلطان عن ابن الأزرق، وأمر بحبس الخطابي. ورسم السلطان لبرسبغا الحاجب وابن صابر المقدم أن يعاقبا النشو وأهله حتى يموتوا وأذن للأجناد في حمل النشاب في السفر لا غيره. ويقال إن سبب عقوبة النشو أن أمراء المشورة تحدثوا مع السلطان في يوم الخميس رابع عشريه في أمر النشو، فابتدأ الأمير علم الدين سنجر الجاولي وقبل الأرض وقال: حاشا مولانا السلطان من شغل الخاطر وضيق الصدر فقال السلطان: يا أمراء، هؤلاء مماليكي أنشأتهم وأعطيتهم العطاء الجزيل، وقد بلغني عنهم ما لا يليق. فقال الجاولي: حاشا لله أن يبدو من مماليك السلطان شيء من هذا غير أن علم مولانا السلطان محيط بأن ملك الخلفاء ما زال إلا بسبب الكتاب، وغالب السلاطين ما دخل عليهم الدخيل إلا من جهة الوزراء. ومولانا السلطان ما يحتاج في هذا إلى أن يعرفه أحد بما جرى لهم، ومن المصلحة قتل هذا الكلب وإراحة الناس منه، فوافقه الجميع على ذلك. فضرب في هذا اليوم المخلص أخو النشو بالمقارع مع ليلة الجمعة حتى هلك يوم الجمعة العصر، ودفن بمقابر اليهود، ثم ماتت أمه عقيبه. وقتل بعدها ولي الدولة عامل المتجر ورمي إلى الكلاب. هذا والعقوبة تتنوع للنشو حتى هلك في يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر، فوجد بغير ختان. وكتب به محضر، ودفن في مقابر اليهود بكفن قيمته أربعة دراهم، ووكل بقبره من يحرسه مدة أسبوع خوفاً من العامة أن تخرجه وتحرقه. فكانت مدة ولايته وجوره سبع سنين وسبعة أشهر. ثم أحضر ولي الدولة صهر النشو ليعاقب، وهو بخلاف ولي الدولة عامل المتجر الذي تقدم، فدل على ذخائر للنشو ما بين ذهب وأواني في صندوق كبير. وطلبت جماعة بسبب ودائع اتهموا بها عندهم للنشو، وشمل الضرر غير واحد منهم. وكان موجود النشو سوى الصندوق المذكور شيئاً كثيراً وعمل لمبيعه تسع وعشرون حلقة، أخرها حلقة لا يوجد لها مثل، إذ بلغت خمساً وسبعين ألف درهم، فكان جملة ما أخذ منه سوى الصندوق نحو مائتي ألف دينار. ووجد لولي الدولة عامل المتجر ما قيمته خمسون ألف دينار، ولولي الدولة صهر النشو زيادة على ثمانين ألف دينار وبيعت للنشو دور بمائة ألف درهم ثم ركب الأمير آقبغا إلى دور أل النشو بالمصاصة من مصر ومعه الأسر وخربها كلها حتى سوى بها الأرض، وحرثها بالمحاريث في طلب الخبايا، وحملت أنقاضها ورخامها، فلم يوجد بها من الخبايا إلا القليل. وفي ثالث عشره: أفرج عن القاضي شهاب الدين أحمد بن يحيي بن فضل الله العمري من سجنه بقلعة الجبل، بعدما أقام مسجوناً سبعة أشهر وثمانية عشر يوماً. وسبب الإفراج عنه أنه كان في السجن كاتب قد سجن على تزوير خط السلطان وكان قد قبض عليه في أيام مباشرة شهاب الدين لوظيفة كاتب السر، ورسم السلطان بقطع يده، فمازال شهاب الدين يتلطف في أمره حتى عفي من قطع يده وسجن. فاتفق في هذا الوقت أنه رفع قصة ينهي فيها توبته، ويسأل العفو عنه، فلم يتذكر السلطان شيئاً من خبره، فقيل له إن شهاب الدين يعرف خبره، فبعث إليه في ذلك وطالعه بأمره، فأفرج عن الكاتب وعن شهاب الدين، ونزل شهاب الدين إلى داره. وفيه خلع على الأمير عز الدين أيدمر الزراق، واستقر في ولاية ثغر الإسكندرية عوضاً عن بيبرس الجمدار الركني. وفيه توجه جمال الكفاة ناظر الخاص، والأمير نجم الدين وزير بغداد، والأمير بيغرا، والأمير طيبغا المجدي لإيقاع الحوطة على موجوده. وذلك أن ابن الصاوي شاد معدن الزمرد رفع فيه أن يربح في سنة من صنف الخمر وحده ثلاثين ألف دينار، وأن له بالإسكندرية عقاراً كثيراً من جملته ثلاثون بستاناً أقلها بألف دينار. فوجد أكثر ما قيل عنه صحيح، فحمل إلى القاهرة، وتعصب له عدة من الأمراء حتى تقرر عليه حمل عشرين ألف دينار، فحملها وأفرج عنه. وفيه نودي بالقاهرة أن يكون صرف الدينار بخمسة وعشرين درهماً بعدما كان بعشرين درهماً وسبب ذلك أن جمال الكفاة ناظر الخاص عمل أوراقاً بما على السلطان للتجار، فكان مبلغ ألف ألف دينار. فأجاب السلطان بأن النشو ذكر أنه وفى التجار ما لهم، وقصد ألا يعطهم شيئاً، فأشار عليه جمال الكفاة بوفاء جماعة منهم، وأن يحسب عليهم الدينار بخمسة وعشرين درهماً وما عدا هذه الجماعة لا يدفع لهم شيء، فتوقفت أحوال الناس لزيادة سعر الذهب. ولما نزل جمال الكفاة إلى دار القند بمصر ابتهج الناس به، فطرح السكر بأقل مما كان يطرحه النشو على السكريين بعشرة دراهم القنطار. ووقع ببلاد البحيرة والغربية مطر عظيم فيه برد كبار، تلف به عدة مزارع وكثير من الأغنام، وهبت مع ذلك رياح عاصفة ألقت النخل. وفيها فرغت مدرسة الأمير آقبغا عبد الواحد، بجوار الجامع الأزهر. وبلي الناس في عمارتها ببلايا كثيرة: منها أن الصناع كان قد قرر عليهم آقبغا أن يعملوا بهذه المدرسة يوماً في الأسبوع بغير أجرة، فكانوا يتناوبون بها العمل سخرة، ومنها أنه حمل لها الأصناف من الناس ومن العمائر السلطانية، فكانت ما بين غضب وسرقة. ومع ذلك فإنه ما نزلها قط إلا وضرب وفيها من الصناع عدة ضرباً ومؤلماً فيصير ذلك الضرب زيادة على شدة عسف مملوكه الذي أقامه شادا بها. فلما تمت جمع بها القضاة والفقهاء، ولم يول بها أحداً، وكان الشريف المحتسب قد عمل لها بسطا بنحو ستة آلاف درهم، على أن يلي تدريسها، فلم يتم له ذلك. وفيه قدم رسول الشيخ حسن بن الأمير حسين بن آقبغا بن أيدكين سبط القان أرغون أبغا بن هولاكو بن طولي بن جنكزخان متولي العراق، بكتابه يتضمن طلب عسكر يتسلم بغداد والموصل وعراق العجم ليقام بها الدعوة للسلطان، وسأل أن يبعث السلطان إلى طغاي بن سونتاي في الصلح بينه وبين الشيخ حسن فأجيب إلى ذلك، ووعد بتجهيز العسكر. وركب أمير أحمد قريب السلطان إلى طغاي ومعه هدية لينظم الصلح بينه وبين الشيخ حسن. وفيه فرغت عمارة الخان الذي أنشأه الأمير طاجار الدوادار بجينين من طريق الشام، وعمل به حوض ماء للسبيل يجري إليه الماء، وعمل به حماماً وعدة حوانيت يباع بها ما يحتاج إليه المسافر، فكثر النفع به. وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرى ربيع الآخر: ركب السلطان إلى قصوره بسرياقوس ومضى إلى خانكاته، وقد تقدمه إليها الشيخ شمس الدين محمد الأصفهاني والقوام الكرماني وجماعة من صوفية سعيد السعداء. فوقف السلطان على الباب بفرسه، وخرج إليه جميع صوفيتها، ووقفوا بين يديه، فسألهم من يختاروه شيخاً لهم بعد وفاة الشيخ مجد الدين موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي فلم يعينوا أحداً. فولى السلطان مشيخة الشيوخ بها الركن الملطى خادم المجد الأقصرائي. وفيها قدم الخبر بأن أرتنا لم يقم الخطبة ببلاد الروم للسلطان ولا ضرب السكة، فكتب بالغارة على أطراف بلاده. فقدم رسوله بهدية فيها خركاة كسوتها من داخلها، ومن خارجها حرير أطلس، ودايرها فرو سمور، وبسطها حرير قومت بثلاثين ألف درهم، ومعها ثلاثون إكديشاً، وأربعة سناقر، وعشرة بزاة وعشرة صقور، وستون تفصيلة حرير، ومع ذلك كتاب يتضمن الشكوى من غارة التركمان على أطراف بلاده. فأجيب بأن ذلك بسبب أنه لم يقم الخطبة ولا ضرب السكة باسم السلطان في بلاده، كما أخبر به. وفيها انقطع السلطان عن الخروج إلى دار العدل نحو عشرين يوماً، لشغل خاطره بمرض الأمير يلبغا اليحياوي وملازمته له. وفيها ادعى صلاح الدين يوسف بن المغربي الحكيم على أولاد الملوك بمبلغ عشرة آلاف درهم عند قاضي القضاة حسام الدين الغوري تعجلوها منه عن أرض بروضة مصر. وكان النشو قد أخذها منهم وأدخلها في ديوان الخاص، فوجب حقه على أولاد الملوك فلم يوافق القاضي على سجنهم وجرت بينه وبين ابن المغربي مفاوضة جرى فيها على عادته من السفه، فلم يرخص له ابن المغربي. وآل الأمر إلى أن خرج الغوري من المدرسة الصالحية ماشياً، وجمع الحنفية ليطلعوا إلى السلطان ويشكوا من ابن المغربي. ومشى الغوري بالشارع وبيده عكاز وكان يوماً مطيراً- والعامة تنظر به وبجماعته، وقد سبقه ابن المغربي وشكاه إلى السلطان. فبعثت السلطان إليه الأمير طاجار، فوجده قد طلع إلى القلعة ماشياً ليمين حلف بها، فبلغه طاجار الرسالة، وأراده أن يرجع، فأبى أن ينصرف حتى يجتمع بالسلطان. فلم يمكنه السلطان من ذلك، وواعده إلى دار العدل، فلما لم يجد سبيلاً إلى الاجتماع به عاد، وطلع يوم الخدمة إلى دار العدل. واستدعى السلطان أولاد الملوك، وادعى عليهم ابن المغربي فألزمهم بالمال، وتسلمهم برسبغا الحاجب، حتى أدوه لابن المغربي بعد إخراق وإهانة بالغة. وفيه عمل سماط جليل بالميدان لعافية الأمير يلبغا اليحياوي فيه من الأطعمة والأشربة والحلاوات ومشروب السكر ما يجل وصفه. واستدعى السلطان لحضوره جميع صوفية الخوانك والزوايا وأهل الخير وسائر الطوائف، وأخرج من الخزانة السلطانية ثلاثين ألف درهم أفرج بها عن المسجونين على دين، وأخرج للأمير يلبغا ثلاث حجورة بمائة ألف درهم، وحياصة ذهب مرصعة بالجواهر، وأفرج عن شعبان قريب ألماس. وفيه خلع على الأمير علاء الدين علي بن الكوراني والي الغربية، واستقر كاشف الوجه القبلي عوضاً عن أخي ظلظيه، لشكوى الجند منه. واستقر أسندمر مملوك القنجقي في ولاية الغربية عوضاً عن ابن الكوراني، بتعيين الأمير برسبغا الحاجب. وفيها جهزت التعابي من الخزانة لنائب الشام ونائب حلب ونائب حماة ونائب طرابلس، على العادة في كل سنة. ورسم بتجهيز تعبئة للأمير ألطنبغا نائب غزة وأنعم عليه من مال دمشق بخمسين ألف درهم وألف درهم وألف غرارة من غلة وحمل إليه ألف دينار وتعبئة قماش وتشريف كامل. وفيها خلع على الأمير نكبيه البريدي متولي قطيا، واستقر في ولاية الإسكندرية عوضاً عن الزراق لاستعفائه منها. وفيه قدم أمير أحمد من بلاد الشرق، وقد عقد الصلح بين طغاي بن سونتاي وبين الشيخ حسن الكبير. وفيها طلبت النساء المغاني وصودرن ما بين ثلاثة ألاف درهم وألف درهبم الواحدة، وسجن بالحجرة أياماً حتى تاب بعضهن عن الغناء، وتزوج بقيتهن. وسبب ذلك أن الأمير آنوك بن السلطان كان يركب إلى جهة بركة الحبش، وعمر له بها حوشاً لطيوره وموضعاً يتنزه به، وأحضر إليه مغنية تعرف بالزهرة، فشغف بها حتى بلغ السلطان ذلك. فأسر السلطان للأمير آقبغا عبد الواحد أن يلزم شاد المغاني والضامنة بالإنكار على المغاني حضورهن مجالس الخمر وإقامة الفتن، وإلزامهن بمال يقمن به عقوبة لهن على ذلك، وأكد عليه في أن يكون ذلك من غير أن ينسب إلى السلطان أنه أمر به رعاية لآنوك. فلما وقع ذلك شق على آنوك امتناع الزهرة عنه عدة أيام، ومازال حتى أتته سراً، ولهى بها عن زوجته ابنة الأمير بكتمر الساقي، حتى علمت أمه بذلك، فلشفقتها عليه ترخصت له، وأمكنته من هواه. فخاف آنوك من السلطان، ودبر هو وبعص مماليكه حيلة أشغل بال السلطان عنه، وكتب ورقة يخيله فيها من الأمير بشتاك والأمير آقبغا، وألقيت إلى السلطان. فنم بعض مماليكه للأمير آقبغا بذلك، فبلغه السلطان، فدخل إلى الدور واستدعى آنوك وهم بقتله بالسيف، فمنعته أمه وجواريه. فأرعد آنوك من الخوف، ولزم الفراش، وتغير السلطان على لالاه أرغون العلالي، وأقام طيبغا المجدي عوضه، ورسم ببيع الدار التي عمرها آنوك ببركة الحبش. وفيه قدم أبو بكر ابن السلطان من الكرك باستدعاء، ومعه هدية قيمتها نحو مائتي ألف درهم، بعد ما أخذ أموال الناس بها على سبيل القرض، وكان يقتل من يمتنع عليه ويصادره، فمات جماعة من الناس تحت العقوبة. وفيه توجه جمال الدين الكفاة ناظر الخاص إلى الإسكندرية وأوقع الحوطة على دور بيبرس الجمدار الركني نائب الإسكندرية بعد موته، فوجد له عدة دور وحوانيت وعشرين بستاناً باعها بخمسمائة ألف وستين ألف درهم، وعاد. وفيها قوى الماء على الجسر الذي استجده السلطان بناحية شيبين، وصارت البلاد الواطئة تستبحر. فاقتضى رأي السلطان عمل زريبة كالجسر ترد قوة الماء، فندب لعملها الأمير بيبغا حارس الطير. وفرض السلطان لذلك على البلاد عن كل دينار ثمن درهم، فجبي نحو أربعمائة ألف درهم. وجمعت البناة والفعلة، وعملت أقمنة الجير والجبس والطوب حتى تمت الزريبة في طول زيادة على ثلاثين آلف قصبة. فعظم النفع بها، وشمل الري عدة أراض ما كانت تروى قبل ذلك إلا في الأنيال العالية، وزاد ارتفاع النواحي بري الأراضي. وبطل سد بحر أبي المنجا، وتأخر فتحه بعد أوانه بعشرة أيام، وقام مقامه سد قناطر شيبين، وبطل ما كان من ركوب الناس وفرجهم في فتح أبي المنجا، وأراح الله تعالى مما كان يعمل فيه يوم فتحه من المنكرات والفواحش. وفيه توجه الأمير بشتاك بآنوك وأبي بكر ولدي السلطان إلى العباسة، وحضر بهما بعد أيام. ثم توجه الأمير يلبغا اليحياوي والأمير بشتاك بطيور السلطان إلى البحيرة، وصحبة يلبغا عشرة أمراء طبلخاناه. فدخلوا إلى الإسكندرية، وقد تقدمهم جمال الكفاة إليها وجهز لهم الإقامات والتعابي والإنعامات، فأقاموا ثلاثة أيام وعادوا. فأنعم السلطان على يلبغا يوم وصوله بناحية سوهاي من الصعيد، وعبرتها خمسة عشر ألف دينار، وكتب بتمكين أهل الاسكندرية من فتح دكاكين الرماة على العادة، والإفراج لهم عن السلاح، وذلك بشفاعة يلبغا. وفيه قدم البريد بموت الأمير طقتمر الخازن نائب قلعة حلب، وأنه وجد له عشرة ألاف دينار ومائة وستون ألف درهم. وفيها توقفت الأحوال بسبب صرف الذهب، وعدم وجود الفضة من بين الناس في الأسواق. فأخرج السلطان من الخزانة ألف درهم فضة فرقت مدة شهر في الصيارف، وأخذ عنها ذهب، فمشت الأحوال قليلاً ثم توقفت. وفيها قدمت طائفة من العجم لهم زي غريب، على رءوسهم أقباع طوال جداً، من فوقها عمائم مضلعة كهيئة الطرطور، ولهم شيخ يعرف بالشيخ زاده. فاحتفل بهم الأمير قوصون وأنزلهم بخانكاته، وعمل لهم فيها عدة أوقات، ثم تحدث قوصون مع السلطان في أمرهم، فولي زاده مشيخة الخانكاه الركنية بيبرس، فباشرها وعمل بها في كل ليلة جمعة سماعاً قام به الأمير قوصون. وفي رابع عشرى شوال: رحل ركب الحاج من بركة الحاج، صحبة الأمير بكا الخضري. وكانت العادة أن يرحل الركب في سادس عشره، فقصد السلطان ألا تطول إقامة الحاج بمكة رفقاً بالها، فأخر الرحيل في رابع عشريه، ليوافي الحجاج بمكة أول ذي الحجة، واستمر ذلك فيما بعد. وسار أيضاً الأمير أقبغا عبد الواحد إلى الحج بأهله. وفيها تسلم الأمير زين الدين قراجا بن دلغادر قلعة طرندة وأقام بها الدعوة للسلطان. وذلك أن مرجان الخادم نائب طرندة من قبل أرتنا توجه منها إلى مخدومه في مهم له، فنزل عليها من أمراء التركمان أمير علي بن الكركري، وإبراهيم كندلكي، وقرأ خليل بن البكي، وابن قرا، في زهاء أربعين رجلاً وقد باطنهم رجل من أهل القلعة وجذب الأربعين بجبال إليها، فقتلوا من بها من جماعة أرتنا، واستولوا عليها وأسلموها لابن دلغادر. فكتب إلى السلطان بذلك، فأنعم بها على الأمير تنكز نائب الشام، فبعث إليها تنكز وعمرها، ولم تزل قلعة طرندة بأيدي سلاطين مصر إلى أن مات الظاهر برقوق. وفيها هبت سموم ورياح عاصفة بجبل طرابلس، وسقط نجم اتصل نوره بالأرض مع رعد قوي إلى الغاية، وعلقت منه نار في أراضي الجون أحرقت عدة أشجار ومنازل فكان ذلك آية. ونزلت من السماء نار بقرية الفيجة من عمل دمشق على قبة خشب أحرقتها، وأحرقت ثلاثة بيوت بجانبها. وفي ليلة الثلاثاء سادس عشريه: وقع بدمشق في أول الليل حريق بالدهشة شرقي الجامع الأموي، فعظم الأمر حتى وصل إلى الجامع، وتعلق بالمنارة الشرقية وسقط على الجملون الرصاص. فبادر الناس جميعاً إليه، وأطفأوه بحضرة الأمير تنكز في مدة يومين بلياليها. ثم وقع أيضاً في ليلة السبت أول ذي القعدة: حريق أخر بقيسارية القواسين والكفتيين وسوق الخيل من دمشق، وكان أمراً مهولاً مدة يومين بلياليها. فعدم فيها نحو خمسة وثلاثين ألف قوس، وعدمت أموالاً عظيمة، منها للتجار خاصة ما مبلغة ألف وستمائة ألف دينار، وخربت أماكن كثيرة. فبينا الناس في ذلك إذ وجدت ورقة فيها: المملوك الناصح تتضمن أن أمر الحريق يظهر إذا أمسك يعقوب غلام المكين كاتب الجيش، فقبض على المذكور وعوقب، فاعترف على أستاذه عدة من كتاب النصارى، وأحضروا بين يدي الأمير تنكز، فأقروا جميعاً بذلك. فأوقع تنكز الحوطة على موجودهم، وكتب عليهم محضراً ملخصه: أن الرشيد سلامة بن سليمان بن مرجا النصراني كاتب الأمير علم الدين سنجر البشمقدار أشهد عليه أنه حضر إليه منتصف شوال المكين يوسف بن مجلي كاتب الأمير بهادر آص والمكين يوسف عامل الجيش وصحبتهما راهبان أحدهما اسمه ميلاني والآخر اسمه عازر، وفدما من القسطنطينية ليجاهدا في الملة الإسلامية ومعابدها وقد باعا نفسيهما على ذلك، وأنهما يعلمان صناعة النفط. فاجتمعوا في بستان المكين يوسف، وأحضر لهم ما يحتاجون إليه من النفط، وعملوا كعكات، وتنكروا في لباسهم، ونزلوا إلى الدهشة وتفرقوا في جوانبها، وابتاعوا منها قماشاً ودفعوا ثمنه لصاحبه، وجعلوا القماش عنده وديعة، وقد دسوا فيه تلك الكعكات المصنوعة، فوقع منها ذلك الحريق، ثم دفعوا إلى الجرائحي النصراني الذي على باب قيسارية القواسين خمسمائة درهم وكعكة من تلك الكعكات، فرمي بها في دكان داخل القيسارية، فكان منها الحريق الثاني، وأن الراهبين المذكورين خرجا بعد ذلك بكتب الجماعة إلى بيروت حتى سيرهم العامل بها في مركب إلى قبرص وأرخ المحضر بعشرى ذي القعدة، وحمل إلى السلطان. ثم سمر الجماعة في يوم السبت ثاني عشرى ذي القعدة، بعدما عوقبوا عقوبات عظيمة، وعددهم أحد عشر رجلاً: وهم المكين يوسف بن مجلي عامل الجيش وأخوه، والمكين جرجس كاتب الحوطات، والمكين كاتب بهادر آص، وسمعان، وأخوه بشارة، والرشيد سلامة بن سليمان كاتب سنجر البشمقدار، والعلم عامل بيروت، والجرائحي، وجزاران نصرانيان، وشخص يعرف بسبيل الله، وكان هذا الرجل بالقاهرة سنة خمس وعشرين بزي غريب يلبس جلداً، ويحمل على كتفه زيراً نحاساً أندلسياً، وبيده شربات كذلك، ويقول بلسان غتمي: سبيل الله، ويسقي الناس بغير جعل، فمن الناس من اعتقده، ومنهم من اتهم أنه جاسوس، ثم خرج هذا الرجل حاجاً، وقدم دمشق وأقام بها يسقي الماء، حتى دخل مع النصارى فيما قاموا فيه من أمر الحريق ولما سمروا وسطوا بعد يومين، ووجد لهم ما ينيف على آلف درهم، أنفق منها في عمارة منارة الجامع والدهشة. فكتب السلطان إلى تنكز ينكر عليه قتل النصارى، وأن في ذلك إغراء لأهل القسطنطينية بمن يرد إليهم من التجار المسلمين وقتلهم، ويأمر بحمل ما وجد من الماء، وأن يجهز بناته اللاتي عقد لأولاد السلطان عليهن. فأجاب تنكز بالاعتذار عن تجهيز بناته بما شغله من عمارة ما أحرق، وأن المال الذي وجد للنصارى قد جعله لعمارة الجامع، وجهر قرمجي بذلك فلم يرض السلطان، وتغير على قرمجي، وكتب معه إليه بأنه لابد من تجهيز بناته. تم أر كب السلطان الأمير طاجار الدوادار على البريد إلى دمشق بملطفات، في يوم الجمعة ثاني عشرى ذي الحجة، وكان طاجار قد ثقل عليه أمر تنكز، وأخذ في زواله، وجعل توجهه إنما هو لعتب تنكز على تأخيره حمل بناته. وكان قد بلغ تنكز تغير السلطان عليه، فجهز أمواله ليحملها إلى قلعة جعبر ويخرج إليها بحجة أنه يتصيد. فقدم عليه طاجار قبل ذلك في يوم الأحد رابع عشره، وعتبه وبلغه عن السلطان ما حمله، فتغير الأمير تنكز وبدا منه ما حفظه عليه طاجار. وعاد طاجار إلى السلطان في يوم الجمعة تاسع عشر ذي الحجة قبل الصلاة، فأغرى السلطان به، وأنه قد عزم على الخروج من دمشق. فطلب السلطان بعد الصلاة الأمير بشتاك والأمير بيبرس الأحمدي والأمير جنكلي بن البابا والأمير أرقطاي والأمير طقزدمر في آخرين، وعرفهم أن تنكز قد خرج عن الطاعة، وأنه يبعث إليه تجريدة مع الأمير جنكلي والأمير بشتاك والأمير أرقطاي والأمير أرنبغا أمير جندار والأمير قماري أمير شكار والأمير قماري أخو بكتمر الساقي والأمير برسبغا الحاجب. ومع هذه الأمراء السبعة ثلاثون أمير طبلخاناه وعشرون أمير عشرة، ومن الطبلخاناه ملكتمر السرجواني وقباتمر الجمدار المظفري وبلك الجمدار المظفري وبكا الخصري ومحمد بن الأمير جنكلي وأمير علي بن صغريل وأمير أحمد الساقي قريب السلطان ونيررز وطقتمر قلي وبيغرا السلاح دار وقراجا السلاح دار وطيبغا المجدي وطاجار الدوادار وبغاتمر وتمربغا العقيلي وطقتمر الصلاحي وجركتمر بن بهادر وسيف الناصري وطقبغا الناصري وبيبغا حارس الطير وأيتمش الناصري وأباجي الوافد وأرلان التتري الوافد وملكتمر السعيدي وأمير محمود بن خطير وخمسون نفراً من مقدمي الحلقة، وأربعمائة من المماليك السلطانية، وجلس السلطانية، وجلس السلطان وعرضهم. ثم جمع السلطان في يوم السبت عشريه الأمراء جميعهم، وحلف المجردين والمقيمين له ولولده الأمير أبي بكر من بعده، وطلب الأجناد من النواحي للحلف، فكانت بالقاهرة حركات كثيرة. وحمل السلطان لكل مقدم آلف مبلغ آلف دينار ولكل أمير طبلخاناه أربعمائة دينار، ولكل مقدم حلقة آلف درهم، ولكل مملوك خمسمائة درهم وفرس وقرقل وخوذة وغير ذلك. فاتفق قدوم الأمير موسى بن مهنا في يوم السبت هذا، فقرر معه السلطان القبض على تنكز وكتب إلى العربان بأخذ الطرقات من كل جهة على تنكز. وبعث السلطان بهادر حلاوة من طائفة الأوجاقية على البريد إلى ألطنبغا الصالحي نائب غزة وسيف الدين طشتمر نائب صفد والي أمراء دمشق، بملطفات كثيرة، وأخرج موسى بن مهنا لتجهيز العربان وإقامته على حمص، واهتم بأمر تنكز اهتماماً زائداً، وكثر قلقه وتنغص عيشه. وخرج العسكر إلى دمشق في يوم الثلاثاء ثالث عشرى ذي الحجة، وكان حلاوة الأوجاقي قد قدم على الأمير ألطنبغا الصالحي نائب غزة بملطفه، وفيه أنه قد استقر في نيابة الشام عوضاً عن تنكز، وأن العسكر واصل إليه ليسيروا به إلى دمشق، وأن الأمير طشتمر نائب صفد قد كتب إليه بالركوب إلى دمشق، ليركب هو والأمير قطلوبغا الفخري، ويقبضا على تنكز، فسر ألطنبغا بذلك ووجه حلاوة إلى صفد، فقدمها ليلة الإثنين ثالث عشريه أول الليل، وأوقف الأمير طشتمر على ملطفه فركب في ساعته في ثمانين فارساً، وساق إلى دمشق. واجتمع طشتمر مع قطلوبغا الفخري وسنجر البشمقدار وبيبرس السلحدار، وكان قد قدم حلاوة إلى أمراء دمشق بكرة يوم الثلائاء وهو متنكر، وأوصل الملطفات إلى أصحابها، وقد سبقته ملطفات الأمير ألطنبغا من غزة. فاتفق ركوب الأمير تنكز في ذلك اليوم إلى قصره فوق ميدان الحصا في خواصه للنزهة، وبينما هو في ذلك إذ بلغه قدوم الخيل من صفد فعاد إلى دار السعادة، وألبس مماليكه السلاح، فلم يكن بأسرع من أن أحاط به أمراء دمشق. ووقع الصوت بوصول طشتمر نائب صفد، فخرج العسكر إلى لقائه، وقد نزل مسجد القدم. فأمر طشتمر جماعة من الأمراء أن يعودوا إلى تنكز ويخرجوه إليه، فدخل عليه منهم تمر الساقي وطرنطاي والبشمقدار وبيبرس السلاح دار، وعرفوه مرسوم السلطان وأخذوه وأركبوه إكديشاً، وساروا به إلى نائب صفد، وهو واقف بالعسكر في ميدان الحصا، وقبض على جنغيه وطعيه مملوكي تنكز وسجنا بالقلعة. وأمر طشتمر بتنكز فأنزل عن فرسه على ثوب سرج وقيده قرمجي مملوكه، وأخده الأمير بيبرس السلاح دار، وتوجه به إلى الكسوة، فحدث له إسهال ورعدة خيف عليه منه الموت، وأقام بها يوماً وليلة، ثم مضى به بيبرس إلى القاهرة، ونزل الأمير طشتمر نائب صفد بالمدرسة النجيبية. وتقدم بهادر حلاوة عندما قبض على تنكز ليبشر السلطان فقدم ليلاً بلبيس والعسكر نازل عليها، وعرف الأمير بشتاك ثم سار إلى السلطان، فقدم ومعه أحد مماليك السلطان ومملوك طاجار الدوادار في خامس عشريه وأخبره الخبر، فسر سرورا كثيراً. وكتب السلطان بعود العسكر من بلبيس خلا الأمير بشتاك والأمير أرقطاي والأمير برسغبا الحاجب وجماعة، فإنهم يتوجهون إلى دمشق، وأن يقيم الأمير بيغرا أمير جندار والأمير قماري أمير شكار بالصالحية إلى أن يقدم الأمير تنكز، فيدخلا به. فعاد العسكر من بلبيس، وتوجه بشتاك ورفيقاه إلى دمشق، فركب معهم الأمير ألطنبغا من غزة، فلقوا الأمير تنكز على بيسان. وفيها فرغ قصر الأمير سيف الدين بشتاك الناصري، بخط بين القصرين من القاهرة. وذلك أن الأمير قوصون لما أخذ قصر بيسري وجدد عمارته، أحب الأمير بشتاك أن يعمل له قصراً تجاه قصر بيسري، فدل على دار الأمير بكناش الفخري الصالحي أمير سلاح، وهي أحد قصور الخلفاء الفاطميين التي اشتراها بكتاش من ذريتهم، وأنشأ بها دوراً وإسطبلات، وأبقى ما وجد فيها من المساجد، فشاور بشتاك السلطان على أخدها، فرسم له بذلك، فأخذها من أولاد بكتاش وأرضاهم، وأنعم له السلطان بأن كانت داخلها برسم الفراشخاناه السلطانية، وأخذ دار أقطوان الساقي بجوارها وهدم الجميع، وأنشأ قصراً مطلاً على الطريق ارتفاعه أربعون ذراعاً وأساسه أربعون ذراعاً، وأجرى إليه الماء ينزل من شادروان إلى بركة. وأخرب بشتاك في عمل هذا القصر أحد عشر مسجداً وأربعة معابد أدخلها فيه، ولم يجدد منها سوى مسجد الفجل وقد سمي هذا المسجد بذلك الاسم من أجل أن قيمه يعرف بالفجل، وأنشأ خاناً تجاه خان الزكاة، ثم باع بشتاك هذا القصر لزوجته التي كانت تحت بكتمر الساقي. وفيها خطب للخليفة الواثق بالله إبراهيم بن محمد المستمسك بن أحمد الحاكم بأمر الله. وذلك أن الخبر قدم في يوم الجمعة ثاني عشر شعبان بموت الخليفة المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بقوص في مستهل شعبان، بعد موت ابنه صدقة بقليل، وأنه اشتد جزعه عليه، وأنه قد عهده لولده أحمد بشهادة أربعين عدلاً وأثبت قاضي قوص ذلك. فلم يمض السلطان عهده، وطلب إبراهيم في يوم الإثنين خامس عشرى شعبان، وأجلسه بجانبه وحادثه، ثم قام إبراهيم وخرج معه الحجاب بين يديه، ثم طلع إلى السلطان في يوم الإثنين ثالث عشر رمضان، وقد اجتمع القضاة بدار العدل على العادة، فعرفهم السلطان بما أراد من إقامة إبراهيم في الخلافة وأمرهم بمبايعته، فأجابوا بعدم أهليته، وأن المستكفي عهد إلى ولده أحمد بشهادة أربعين عدلاً وحاكم قوص، ويحتاج إلى النظر في عهده. فكتب السلطان بطلب أحمد وعائلة أبيه، وأقام الخطباء بديار مصر والشام نحو أربعة أشهر لا يذكرون في خطبهم الخليفة. فلما قدم أحمد من قوص لم يمض السلطان عهده، وطلب إبراهيم وعرفه قبح سيرته، فأظهر التوبة منها والتزم بسلوك طريق الخير، فاستدعى السلطان القضاة في يوم الإثنين وعرفهم أنه أقام إبراهيم في الخلافة، فأخذ قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة يعرفه سوء أهليته للخلافة، فأجاب بأنه قد تاب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد وليته فاشهدوا علي بولايته. ورتب له السلطان ما جرت به العادة، وهو ثلاثة آلاف وخمسمائة وستون درهماً وتسعة عشر أردب شعيراً في كل شهر، فلم يعارضه أحد. وخطب له في يوم الجمعة سادس ذي القعدة. ولقب بالواثق بالله أبي اسحاق، فكانت العامة تسميه المستعطي فإنه كان يستعطى من الناس ما ينفقه، وشهر بارتكاب أمور غير مرضية. وفيها استقر في قضاء الشافعية برهان الدين إبراهيم بن الفخر خليل بن إبراهيم الرسعني، عوضاً عن زين عمر بن محمد بن عبد الحاكم البلفيائي. وفيها استقر ناصر الدين محمد بن الصاحب شرف الدين يشوب بن عبد الكريم بن أبي المعالي الحلبي في كتابة السر بحلب، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن القطب المصري. وفيها استقر الشيخ حسن الكبير بن الأمير حسين بن آقبفا بن أيدكين وهو سبط القان أرغون بن أبغا بن هولاكو، في مملكة بغداد، قدم إليها من خراسان، وكان الشيخ حسن الصغير بن دمرداش إذ ذاك حاكم توريز. وكان قاع النيل في هذه السنة أربعة أذرع وخمسة أصابع، وانتهت زيادته إلى سبعة عشر ذراعاً وتسعة عشر أصبعاً. ومات فيها من الأعيان شهاب الدين أحمد بن عيسى بن جعفر الأرمنتي المصري عرف بابن الكمال في جمادى الأولى، سمع من الأبرقوهي، وكان ثقة. وتوفي الشيخ مجد الدين أبو بكر بن إسماعيل بن عبد العزيز الزنكلوني الشافعي ليلة الثلاثاء رابع ربيع الأول، وله شرح التنبيه في الفقه وغيره، وولي مشيخة خانكاه بيبرس. وتوفي الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان ابن الخليفة الحاكم بأمرالله أبو العباس أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن أبي علي بن الحسن العباسي، بمدينة قوص، عن ست وخمسين سنة وستة أشهر وأحد عشر يوماً، وفي خامس شعبان، وكانت خلافته تسعاً وثلاثين سنة وشهرين وثلاثة عشر يوماً، وكان حشماً كريماً فاضلاً. وتوفي خطيب أحميم علم الدين علي، وكان له مال كثير وإفضال كثير. أضاف السلطان مرتين وكفاه بجميع ما يحتاج إليه، وأهدى إلى جميع الأمراء، وعمر مدرسة بمدينة أحميم ومات الأمير ركن الدين بيبرس الأوحدي والي القلعة، أحد المماليك المنصورية، في يوم السبت تاسع عشر ربيع الأول. ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير عز الدين أيدمر الخطيري، وكان خيراً. ومات بدمشق الأمير آقسنقر مشد العمارة، المنسوب إليه قنطرة آقسنقر على الخليج خارج القاهرة، والجامع بسويقة السباعين على البركة الناصرية فيما بين القاهرة ومصر ومات الأمير علم الدين علي بن حسن المرواني والي القاهرة، في ثاني عشر رجب بعد مقاساة أمراض شنيعة مدة سنة، وكان سفاكاً أفاكاً ظلوماً غشوماً، اقترح في ولايته عقوبات مهولة: منها نعل الرجل في رجليه بالحديد كما تنعل الخيل، ومنها تعليق الرجل بيديه وتعليق مقابرات العلاج في رجليه، فتنخلع أعضاؤه ويموت، وقتل خلقاً كثيراً من الكتاب وغيرهم في أيام النشو، ولما حملت جنازته وقف عالم عظيم لرجمه، فركب الوالي وابن صابر المقدم حتى طردهم. ومات الأمير عز الدين أيدمر الدوادار الناصري بدمشق، وكان خيراً فاضلاً. ومات الأمير بهادر البدري نائب الكرك، وهو منفي بطرابلس. وتوفي شرف الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عسكر بن مظفر القيراطي الشافعي، بالقاهرة عن سبعين سنة، تصدر بالجامع الأزهر، وباشر قضاء دمياط. وتوفي جمال الدين عبد القاهر بن محمد بن عبد الواحد بن محمد بن إبراهيم التبريزي الحراني الشافعي قاضي دمياط، كان فقيهاً أديباً شاعراً خطيباً. وتوفي الشيخ مجد الدين أبو حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي شيخ الشيوخ، في يوم الجمعة سابع عشر ربيع الآخر وقد أناف على السبعين بخانكاه سرياقوس. ومات الأمير ركن الدين بيبرس الركني المظفري، كاشف البحيرة ووالي ثغر الإسكندرية، عن مال كثير. ومات شرف الدين عبد الوهاب بن التاج فضل الله المعروف بالنشو ناظر الخاص، في يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر، كان أبوه يكتب عند الأمير بكتمر الحاحب وهو ينوب عنه، ثم انتقل إلى مباشرة ديوان الأمير أركتمر الجمدار، ثم ولي استيفاء الدولة، ثم باشر ديوان الأمير آنوك ابن السلطان، وأكره حتى أظهر الإسلام، وولي نظر الخاص السلطاني، فبلغ ما لم يبلغه أحد من الأقباط في دولة الترك، وتقدم عند السلطان على كل أحد، وخدمه جميع أرباب الأقلام، وكان محضر سوء لم يشتهر عنه شيء من الخير، وجمع من الأموال ما لم يجمعه وزير للدولة التركية، وكان مظفراً، ما ضرب على أحد إلا ونال غرضه منه بالإيقاع به وتخريب دياره، وقتل على يديه عدة من الولاة والكتاب، واجتهد غاية جهده في قتل موسى بن التاج إسحاق، وعاقبة ستة أشهر بأنواع العقوبات، من الضرب بالمقارع والعصر في كعابه وتسعيطه بالماء والملح وبالخل والجير وغير ذلك مع نحافة بدنه ومرضه بالربو والحمى، فلم يمت، وعاش التاج موسى هذا ثلاثين سنة بعد هلاك النشو. ومات مجد الدين رزق الله بن فضل الله أخو النشو، خدم وهو نصراني في استيفاء الخاص أيام أخيه، ثم أسلم على يد السلطان في سنة ست وثلاثين كرهاً، وخدم عند الأمير ملكتمر الحجازي، فعظم شأنه وفعل خيراً، فلما قبض على أخيه قبض عليه معه، فذبح نفسه في ثالث صفر.
|